الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
لأنه ما وجد في الأمر ولو وجد بالفكر وهذا مثل مالم ترد الشريعة به كأمر الأطفال ومن لا عقل له والأعمى البصر، والفقير النفقة، والزمن أن يسير إلى مكة، فكل ذلك ما جاءت به الشريعة، ولو جاءت به لزم الإيمان به والتصديق فلا يقيد الكلام فيه. قال: وذهبت طائفة من أصحابنا إلى إطلاق الاسم من جواز تكليف ما لا يطاق من زمن وأعمى وغيرهم، وهو مذهب جهم وبرغوث. الوجه الثاني: سلامة الآلة، لكن عدم الطاقة لعدم التوفيق والقبول، وذلك يجوز وجها واحدًا في معنى هذا أنه يجوز التكليف لمن قدر علم الله فيه أنه لا يفعله، وأبي ذلك المعتزلة والدليل عليه قوله تعالى لإبليس: القول الثاني: منقول عن أبى الحسن أيضًا، وزعم أبو المعالي الجويني أنه الذي مال إليه أكثر أجوبة أبي الحسن، وأنه الذي ارتضاه كثير من أصحابه،/وقد توقف أبو الحسن عن الجواب في هذه المسألة في الموجز، وكان أبو المعالي يختاره أولا، ثم رجع عنه وقطع أن تكليف مالا يطاق محال، وهذا القول الأول قول ابن عقيل وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي عبد الله الرازي وغيره، وهذا الثاني هو مذهب أبي إسحاق الإسفرائيني وأبي بكر بن فورك، وأبي القاسم الأشعري، والغزالي، وادعى أبو إسحاق الإسفرائيني أنه مذهب شيخه أبي الحسن، وأنه مذهب أهل الحق، فأما القاضي أبو بكر فقد قال: بجوازه في بعض كتبه، وأكثر كلامه على التفريق بين تكليف العاجز، وبين تكليف القادر على الترك، كما هو قول الجمهور. وفي المسألة قول ثالث: وهو الذي ذكره أبو بكر عبد العزيز أنه يجوز تكليف كل ما يمكن وإن كان ممتنعًا في العادة كالمشي على الوجه، ونقط الأعمى المصحف دون الممتنع كالجمع بين الضدين. وفصل الخطاب في هذه المسألة: إن النزاع فيها في أصلين: أحدهما: التكليف الواقع الذي اتفق المسلمون علي وقوعه في الشريعة وهو أمر العباد كلهم بما أمرهم الله به ورسوله من الإيمان به وتقواه هل يسمى هذا أو شيء منه تكليف ما لا يطاق ؟ فمن قال: بأن القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول: إن العاصي كلف مالا يطيقه، ويقول: إن كل أحد كلف حين كان غير مطيق، وكذلك من زعم أن تقدم العلم والكتاب بالشيء يمنع/ أن يقدر على خلافه، وقال: إن كلف خلاف المعلوم فقد كلف ما لا يطيقه، وكذلك من يقول: إن العرض لا يبقى زمانين، يقول: إن الاستطاعة المتقدمة لا تبقى إلى حين الفعل. وهذا في الحقيقة ليس نزاعًا في الأفعال التي أمر الله بها ونهى عنها، هل يتناولها التكليف؟ وإنما هو نزاع في كونها غير مقدورة للعبد التارك لها وغير مقدورة قبل فعلها، وقد قدمنا أن القدرة نوعان، وأن من أطلق القول بأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فإطلاقه مخالف لما ورد في الكتاب والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ـ كإطلاق القول بالجبر ـ وإن كان قد أطلق ذلك طوائف من المنتسبين إلى السنة في ردهم على القدرية من المنتسبين إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة كأبي الحسن، وأبي بكر عبد العزيز، وأبي عبد الله بن حامد، والقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي، وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم، فقد منع من هذا الإطلاق جمهور أهل العلم كأبي العباس ابن سريج، وأبي العباس القلانسي، وغيرهما، ونقل ذلك عن أبي حنيفة نفسه، وهو مقتضى قول جميع الأمة. ولهذا امتنع أبو إسحاق بن شاقلا من إطلاق ذلك، وحكى فيه القولين: فقال: - فيما ذكره عنه القاضي أبو يعلى ـ: الاستطاعة مع الفعل أو قبله، حجة من قال: إن الصلاة والحج والجهاد، لا يجوز أن يأمر به غير مستطيع،/ وحجة من قال: إن الفعل خلق من خلق الله عز وجل، فإذا خلق فيه فعلاً فعله. وهذا كما أن من قال: إنه ليس للعبد إلا قدرة واحدة يقدر بها على الفعل والترك،وأنه مستغن في حال الفعل عن معونة من الله تعالى يفعل بها، وسوى بين نعمته على المؤمن والكافر والبر والفاجر، فهو مبطل وهم من القدرية الذين حاد منهم في الأيام المشهورة حيث كان قولهم: إن العبد لا يفتقر إلى الله تعالى حال الفعل بالبر عما وجد قبل الفعل وأنه ليس لله تعالى نعمة أنعم بها على من آمن به وأطاعه أكبر من نعمته علي من كفر به وعصاه، فهذا القول خطأ قطعًا؛ ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على تضليل صاحب هذا القول . ثم النزاع بينهم بعد ذلك في هذه الأمور كثير: منه لفظي، ومنه ما هو اعتباري، كتنازعهم في أن العرض هل يبقى أم لا يبقى، وبنوا على ذلك بقاء الاستطاعة، ولكن أحسن الألفاظ والاعتبارات ما يطابق الكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة وأئمتها والواجب أن يجعل نصوص الكتاب والسنة هي الأصل المعتمد الذي يجب اتباعه ويسوغ إطلاقه، ويجعل الألفاظ حتى تنازع فيها الناس نفيًا أو إثباتًا موقوفة على الاستفسار والتفصيل، ويمنع من/ إطلاق نفي ما أثبته الله ورسوله، وإطلاق إثبات ما نفى الله ورسوله. والأصل الثاني: فيما اتفق الناس على أنه غير مقدور للعبد، وتنازعوا في جواز تكليفه، وهو نوعان: ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران ونحو ذلك، وما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، فهذا في جوازه عقلاً ثلاثة أقوال كما تقدم، وأما وقوعه في الشريعة وجوازه شرعًا فقد اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع في الشريعة، وقد حكى انعقاد الإجماع على ذلك غير واحد منهم أبو الحسن بن الزاغوني فقال:
تكليف ما لا يطاق وهو على ضربين : أحدهما: تكليف ما لا يطاق لوجود ضده من العجز، وذلك مثل أن يكلف المقعد القيام، والأعمى الخط ونقط الكتاب، وأمثال ذلك، فهذا مما لا يجوز تكليفه وهو مما انعقد الإجماع عليه، وذلك لأن عدم الطاقة فيه ملحقة بالممتنع والمستحيل، وذلك يوجب خروجه عن المقدور فامتنع تكليف مثله. والثاني: تكليف مالا يطاق لا لوجود ضده من العجز مثل أن يكلف الكافر الذي سبق في علمه أنه لا يستحب التكليف كفرعون وأبى جهل/وأمثالهم، فهذا جائز، وذهبت المعتزلة إلى أن تكليف مالا يطاق غير جائز، قال: وهذه المسألة كالأصل لهذه. قلت: وهذا الإجماع هو إجماع الفقهاء وأهل العلم، فإنه قد ذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن تكليف الممتنع لذاته واقع في الشريعة، وهذا قول الرازي وطائفة قبله، وزعموا أن تكليف أبي لهب وغيره من هذا الباب حيث كلف أن يصدق بالأخبار التي من جملتها الإخبار بأنه لا يؤمن، وهذا غلط، فإنه من أخبر الله أنه لا يؤمن وأنه يصلي النار بعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له إلى الإيمان فقد حقت عليه كلمة العذاب، كالذي يعاين الملائكة وقت الموت لم يبق بعد هذا مخاطبًا من جهة الرسول بهذين الأمرين المتناقضين. وكذلك من قال: تكليف العاجز واقع محتمًا بقوله:
/ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا. فصــل في قوله صلى الله عليه وسلم : (فحج آدم موسى) لما احتج عليه بالقدر. وبيان أن ذلك في المصائب لا في الذنوب، وأن الله أمر بالصبر والتقوى فهذا في الصبر لا في التقوى، وقال: وذلك أن بني آدم اضطربوا في هذا المقام ـ مقام تعارض الأمر والقدر ـ وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع. والمقصود هنا أنه قد ثبت في الصحيحين حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم ؟ أنت أبو البشر الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، و أسجد لك ملائكته فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي كلمك الله تكليمًا وكتب لك التوراة. فبكم تجد فيها مكتوبًا : وهو مروي ـ أيضًا ـ من طريق عمر بن الخطاب بإسناد حسن، وقد ظن كثير من الناس أن آدم احتج بالقدر السابق على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظن ثلاثة أحزاب: فريق كذبوا بهذا الحديث: كأبي على الجبائي وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم بل وجميع الأنبياء وأتباع الأنبياء أن يجعلوا القدر حجة لمن عصى الله ورسوله. / وفريق تأولوه بتأويلات معلومة الفساد: كقول بعضهم: إنما حجه لأنه كان أباه والابن لا يلوم أباه، وقول بعضهم: لأن الذنب كان في شريعة، والملام في أخرى، وقول بعضهم: لأن الملام كان بعد التوبة، وقول بعضهم: لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة. وفريق ثالث جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالفين لأمر الله ورسوله، ثم لم يمكنهم طرد ذلك، فلا بد في نفس معاشهم في الدنيا أن يلام من فعل ما يضر نفسه وغيره، لكن منهم من صار يحتج بهذا عند أهوائه وأغراضه، لا عند أهواء غيره كما قيل في مثل هؤلاء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، فالواحد من هؤلاء إذا أذنب أخذ يحتج بالقدر، ولو أذنب غيره أو ظلمه لم يعذره، وهؤلاء ظالمون معتدون. ومنهم من يقول: هذا في حق أهل الحقيقة الذين شهدوا توحيد الربوبية وفنوا عما سوي الله، فيرون ألا فاعل إلا الله، فهؤلاء لا يستحسنون حسنة ولا يستقبحون سيئة، فإنهم لا يرون لمخلوق فعلاً، بل لا يرون فاعلاً إلا الله، بخلاف من شهد لنفسه فعلاً فإنه يذم ويعاقب، وهذا قول كثير من متأخري الصوفية المدعين للحقيقة، وقد يجعلون هذا نهاية التحقيق، وغاية العرفان والتوحيد، وهذا قول طائفة من أهل العلم. /قال أبو المظفر السمعاني: وأما الكلام فيما جرى بين آدم وموسى من المحاجة في هذا الشأن، فإنما ساغ لهما الحجاج في ذلك؛ لأنهما نبيان جليلان خصا بعلم الحقائق، وأذن لهما في استكشاف السرائر، وليس سبيل الخلق الذين أمروا بالوقوف عند ما حد لهم والسكوت عما طوي عنهم سبيلها، وليس قوله: (فحج آدم موسى) إبطال حكم الطاعة، ولا إسقاط العمل الواجب، ولكن معناه ترجيح أحد الأمرين، وتقديم رتبة العلة على السبب، فقد تقع الحكمة بترجيح معني أحد الأمرين، فسبيل قوله: (فحج آدم موسى)، هذا السبيل، وقد ظهر هذا في قضية آدم، قال الله تعالى: إلى أن قال: فجاء من هذا أن آدم لم يتهيأ له أن يستديم سكنى الجنة إلا بألا يقرب الشجرة؛ لسابق القضاء المكتوب عليه في الخروج منها، وبهذا صال على موسى عند المحاجة، وبهذا المعنى قضى له على موسى فقال: فحج آدم موسى. قلت: ولهذا يقول الشيخ عبد القادر ـ قدس الله روحه ـ: كثير من الرجال إذا وصلوا إلي القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعًا للقدر لا موافقًا له، وهو ـ رضي الله عنه ـ كان يعظم الأمر والنهي، ويوصي باتباع ذلك، وينهي عن الاحتجاج بالقدر، وكذلك شيخه حماد الدباس وذلك لما رأوه في/ كثير من السالكين من الوقوف عند القدر المعارض للأمر والنهي، والعبد مأمور بأن يجاهد في سبيل الله ويدفع ما قدر من المعاصي بما يقدر من الطاعة، فهو منازع للمقدور المحظور بالمقدور المأمور لله ـ تعالى ـ وهذا هو دين الله الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل صلوات الله عليهم أجمعين. وممن يشبه هؤلاء كثير من الفلاسفة: كقول ابن سينا بأن يشهد سر القدر، والرازي يقرر ذلك؛ لأنه كان جبريًا محضًا. وفي الجملة، فهذا المعني دائر في نفوس كثير من الخاصة من أهل العلم والعبادة فضلاً عن العامة، وهو مناقض لدين الإسلام. ومن هؤلاء من يقول: الخضر إنما سقط عنه الملام؛ لأنه كان مشاهدًا لحقيقة القدر، ومن شيوخ هؤلاء من كان يقول: لو قتلت سبعين نبيًا لما كنت مخطئًا، ومنهم من يقول بطرد قوله بحسب الإمكان فيقول: كل من قدر على فعل شيء وفعله فلا ملام عليه، فإن قدر أنه خالف غرض غيره فذلك ينازعه، والأقوى منهما يقمر الآخر، فأيهما أعانه القدر فهو المصيب، باعتبار أنه غالب وإلا فما ثم خطأ. ومن هؤلاء الاتحادية الذين يقولون: الوجود واحد، ثم يقولون:/ بعضه أفضل من بعض والأفضل يستحق أن يكون ربًا للمفضول، ويقولون: إن فرعون كان صادقًا في قوله: وأما شهود القدر فيقال: لا ريب أن الله ـ تعالى ـ خالق كل شيء ومليكه، والقدر هو قدرة الله، كما قال الإمام أحمد: وهو المقدر لكل ما هو كائن، لكن هذا لا ينفي حقيقة الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأن من الأفعال ما ينفع صاحبه،فيحصل له به نعيم، ومنها ما يضر صاحبه فيحصل له به عذاب، فنحن لا ننكر اشتراك الجميع من جهة المشيئة والربوبية وابتداء الأمور، لكن نثبت فرقًا آخر من جهة الحكمة والأوامر الإلهية ونهاية الأمور، فإن العاقبة للتقوى، لا لغير المتقين، وقد قال تعالى: وإذا كان كذلك فحقيقة الفرق: أن من الأمور ما هو ملائم للإنسان نافع له فيحصل له به اللذة، ومنها ما هو مضاد له ضار له يحصل به الألم، فرجع/ الفرق إلى الفرق بين اللذة والألم، وأسباب هذا وهذا، وهذا الفرق معلوم بالحس والعقل، والشرع مجمع عليه بين الأولين والآخرين، بل هو معلوم عند البهائم، بل هذا موجود في جميع المخلوقات، وإذا أثبتنا الفرق بين الحسنات والسيئات، وهو الفرق بين الحسن والقبيح، فالفرق يرجع إلى هذا. والعقلاء متفقون على أن كون بعض الأفعال ملائمًا للإنسان، وبعضها منافيًا له، إذا قيل هذا حسن وهذا قبيح، فهذا الحسن والقبح مما يعلم بالعقل باتفاق العقلاء. وتنازعوا في الحسن والقبح، بمعنى كون الفعل سببًا للذم والعقاب، هل يعلم بالعقل أم لا يعلم إلا بالشرع، وكان من أسباب النزاع أنهم ظنوا أن هذا القسم مغاير للأول، وليس هذا خارجًا عنه، فليس في الوجود حسن إلا بمعنى الملائم، ولا قبيح إلا بمعنى المنافي، والمدح والثواب ملائم، والذم والعقاب مناف، فهذا نوع من الملائم والمنافي . يبقى الكلام في بعض أنواع الحسن والقبيح لا في جميعه، ولا ريب أن من أنواعه ما لا يعلم إلا بالشرع، ولكن النزاع فيما قبحه معلوم لعموم الخلق، كالظلم والكذب ونحو ذلك. والنزاع في أمور: منها :هل للفعل صفة صار بها حسنًا وقبيحًا، وأن الحسن العقلي هو كونه موافقا لمصلحة العالم، والقبح العقلي بخلافه، فهل في الشرع زيادة على/ ذلك؟ وفي أن العقاب في الدنيا والآخرة هل يعلم بمجرد العقل؟ وبسط هذا له موضع آخر. ومن الناس من أثبت قسمًا ثالثا للحسن والقبح، وادعى الاتفاق عليه، وهو كون الفعل صفة كمال أو صفة نقص، وهذا القسم لم يذكره عامة المتقدمين المتكلمين في هذه المسألة، ولكن ذكره بعض المتأخرين: كالرازي، وأخذه عن الفلاسفة. والتحقيق: أن هذا القسم لا يخالف الأول، فإن الكمال الذي يحصل للإنسان ببعض الأفعال هو يعود إلى الموافقة والمخالفة، وهو اللذة أو الألم، فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألم بالنقص فيعود الكمال،والنقص إلى الملائم والمنافي، وهذا مبسوط في موضع آخر. والمقصود هنا أن الفرق بين الأفعال الحسنة التي يحصل لصاحبها بها لذة، وبين السيئة التي يحصل له بها ألم أمر حسي يعرفه جميع الحيوان، فمن قال من المدعين للحقيقة القدرية، والفناء في توحيد الربوبية، والاصطلام: إنه يبقي في عين الجمع بحيث لا يفرق بين ما يؤلم أو ما يلذ،، كان هذا مما يعلم كذبه فيه، إن كان يفهم ما يقول، وإلا كان ضالا يتكلم بما لايعرف حقيقته، وهو الغالب على من يتكلم في هذا. فإن القوم قد يحصل لأحدهم هذا المشهد ـ مشهد الفناء في توحيد/ الربوبية ـ فلا يشهد فرقًا ما دام فى هذا المشهد، وقد يغيب عنه الإحساس بما يوجب الفرق مدة من الزمان، فيظن هذا الفناء مقامًا محمودًا، ويجعله إما غاية، وإما لازمًا للسالكين، وهذا غلط، فإن عدم الفرق بين ما ينعم ويعذب أحيانًا هو مثل عدم الفرق بين النوم والنسيان، والغفلة والاشتغال بشيء عن آخر وهو لا يزيل الفرق الثابت في نفس الأمر، ولا يزيل الإحساس به إذا وجد سببه. والواحد من هؤلاء لابد أن يجوع أو يعطش، فلا يسوى بين الخبز والشراب، وبين الملح الأجاج، والعذب الفرات، بل لابد أن يفرق بينهما ويقول: هذا طيب وهذا ليس بطيب، وهذا هو الفرق بين كل ما أمر الله ورسوله به ونهى عنه، فإنه أمر بالطيب من القول والعمل، ونهى عن الخبيث. وإذا عرف أن المراد بالفرق هو أن من الأمور ما ينفع، ويوجب اللذة والنعيم، ومنها ما يضر ويوجب الألم والعذاب، فبعض هذه الأمور تدرك بالحس، وبعضها يدركه الناس بعقولهم لأمور الدنيا، فيعرفون ما يجلب لهم منفعة في الدنيا وما يجلب لهم مضرة، وهذا من العقل الذي ميز به الإنسان، فإنه يدرك من عواقب الأفعال مالا يدركه الحس، ولفظ العقل في القرآن يتضمن ما يجلب به المنفعة وما يدفع به المضرة. /والله ـ تعالى ـ بعث الرسل بتكميل الفطرة، فدلوهم على ما ينالون به النعيم في الآخرة وينجون من عذاب الآخرة، فالفرق بين المأمور والمحظور هو كالفرق بين الجنة والنار، واللذة والألم، والنعيم والعذاب، ومن لم يدرك هذا الفرق، فإن كان لسبب أزال عقله هو به معذور، وإلا كان مطالبًا بما فعله من الشر وتركه من الخير. ولا ريب أن في الناس من قد يزول عقله في بعض الأحوال، ومن الناس من يتعاطى ما يزيل العقل؛ كالخمر وكسماع الأصوات المطربة، فإن ذلك قد يقوى حتى يسكر أصحابها، ويقترن بهم شياطين، فيقتل بعضهم بعضًا في السماع المسكر، كما يقتل شراب الخمر بعضهم بعضا إذا سكروا، وهذا مما يعرفه كثير من أهل الأحوال، لكن منهم من يقول: المقتول شهيد، والتحقيق: أن المقتول يشبه المقتول في شرب الخمر، فإنهم سكروا سكرًا غير مشروع، لكن غالبهم يظن أن هذا من أحوال أولياء الله المتقين، فيبقى القتيل فيهم كالقتيل في الفتنة، وليس هو كالذي تعمد قتله،ولا هو كالمقتول ظلمًا من كل وجه. فإن قيل: فهل هذا الفناء يزول به التكليف ؟ قيل: إن حصل للإنسان سبب يعذر فيه، زال به عقله الذي يميز به، فكان بمنزلة النائم والمغمي عليه، والسكران سكرًا لا يأثم به، كمن سكر قبل التحريم أو أوجر الخمر، أو أكره على شربها عند الجمهور، وأما إن كان السكر لسبب محرم، فهذا فيه نزاع معروف بين العلماء. /والذين يذكرون عن أبي يزيد وغيره كلمات من الاتحاد الخاص، ونفي الفرق ويعذرونه في ذلك يقولون: إنه غاب عقله حتى قال: أنا الحق وسبحاني وما في الجبة إلا الله، ويقولون: إن الحب إذا قوى على صاحبه وكان قلبه ضعيفًا يغيب بمحبوبه عن حبه وبموجوده عن وجده، وبمذكوره عن ذكره حتي يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، ويحكون أن شخصًا ألقى بنفسه في الماء فألقى محبة نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت، فلم وقعت أنت؟ فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني. فمثل هذا الحال التي يزول فيها تمييزه بين الرب والعبد، وبين المأمور والمحظور ليست علمًا ولا حقًا، بل غايته أنه نقص عقله الذي يفرق به بين هذا وهذا، وغايته أن يعذر، لا أن يكون قوله تحقيقًا. وطائفة من الصوفية المدعين للتحقيق يجعلون هذا تحقيقًا وتوحيدًا، كما فعله صاحب منازل السائرين، وابن العريف وغيرهما، كما أن الاتحاد العام جعله طائفة تحقيقًا وتوحيدًا، كابن عربي الطائي. وقد ظن طائفة أن الحلاج كان من هؤلاء ثم صاروا حزبين: حزب يقول: وقع في ذلك الفناء فكان معذورًا في الباطن، ولكن قتله واجب في الظاهر، ويقولون: القاتل مجاهد، والمقتول شهيد، ويحكون عن بعض الشيوخ أنه قال: عثر عثرة لو كنت في زمنه لأخذت بيده، ويجعلون حاله من جنس حال أهل الاصطلام والفناء. /وحزب ثان: وهم الذين يصوبون حال أهل الفناء في توحيد الربوبية، ويقولون: هو الغاية، يقولون: بل الحلاج كان في غاية التحقيق والتوحيد. ثم هؤلاء في قتله فريقان: فريق يقول: قتل مظلومًا وما كان يجوز قتله، ويعادون الشرع وأهل الشرع لقتلهم الحلاج، ومنهم من يعادي جنس الفقهاء وأهل العلم، ويقولون: هم قتلوا الحلاج، وهؤلاء من جنس الذين يقولون: لنا شريعة ولنا حقيقة تخالف الشريعة، والذين يتكلمون بهذا الكلام لا يميزون ما المراد بلفظ الشريعة في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس، ولا المراد بلفظ الحقيقة أو الحق أو الذوق أو الوجد أو التوحيد في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس، بل فيهم من يظن الشرع عبارة عما يحكم به القاضي. ومن هؤلاء من لا يميز بين القاضي العالم العادل والقاضي الجاهل والقاضي الظالم، بل ما حكم به حاكم سماه شريعة، ولا ريب أنه قد تكون الحقيقة في نفس الأمر التي يحبها الله ورسوله خلاف ماحكم به الحاكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه/ شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار). فالحاكم يحكم بما يسمعه من البينة والإقرار، و قد يكون للآخر حجج لم يبينها، وأمثال هذا. فالشريعة في نفس الأمر هي الأمر الباطن، وما قضى به القاضي ينفذ ظاهرًا، وكثير من الأمور قد يكون باطنها بخلاف ما يظهر لبعض الناس، ومن هذا قصة موسى والخضر فإنه كان الذي فعله مصلحة، وهو شريعة أمره الله بها، ولم يكن مخالفًا لشرع الله، لكن لما لم يعرف موسى الباطن، كان في الظاهر عنده أن هذا لا يجوز، فلما بين له الخضر الأمور وافقه، فلم يكن ذلك مخالفًا للشرع. وهذا الباب يقال فيه: قد يكون الأمر في الباطن بخلاف ما يظهر، وهذا صحيح، لكن تسمية الباطن حقيقة، والظاهر شريعة، أمر اصطلاحي. ومن الناس من يجعل الحقيقة هي الأمر الباطن مطلقا، والشريعة الأمور الظاهرة. وهذا كما أن لفظ الإسلام إذا قرن بالإيمان أريد به الأعمال الظاهرة، ولفظ الإيمان يراد به الإيمان الذي في القلب، كما في حديث جبريل، فإذا جمع بينهما فقيل:شرائع الإسلام وحقائق الإيمان، كان هذا كلامًا صحيحًا، لكن متى/أفرد أحدهما تناول الآخر، فكل شريعة ليس لها حقيقة باطنة، فليس صاحبها من المؤمنين حقًا، وكل حقيقة لا توافق الشريعة التي بعث الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم فصاحبها ليس بمسلم، فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين. وقد يراد بلفظ الشريعة ما يقوله فقهاء الشريعة باجتهادهم، وبالحقيقة ما يذوقه ويجده الصوفية بقلوبهم، ولا ريب أن كلا من هؤلاء مجتهدون: تارة مصيبون، وتارة مخطئون، وليس لواحد منهما تعمد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إن اتفق اجتهاد الطائفتين، وإلا فليس على واحدة أن تقلد الأخرى إلا أن تأتي بحجة شرعية توجب موافقتها. فمن الناس من يظهر أن الحلاج قتل باجتهاد فقهى يخالف الحقيقة الذوقية التي عليها هؤلاء، وهذا ظن كثير من الناس، وليس كذلك، بل الذي قتل عليه إنما هو الكفر، وقتل باتفاق الطائفتين، مثل دعواه أنه يقدر أن يعارض القرآن بخير منه، ودعواه أنه من فاته الحج أنه يبني بيتًا يطوف به، ويتصدق بشيء قدره، وذلك يسقط الحج عنه، إلى أمور أخرى توجب الكفر باتفاق المسلمين الذين يشهدون أن محمدًا رسول الله، علماؤهم وعبادهم وفقهاؤهم وفقراؤهم وصوفيتهم. وفريق يقولون: قتل لأنه باح بسر التوحيد والتحقيق الذي ما/ كان ينبغي أن يبوح به، فإن هذا من الأسرار التي لا يتكلم بها إلا مع خواص الناس، وهي مما تطوى ولا تروى وينشدون : من باح بالسر كان القتل شيمته ** من الرجال ولم يأخذ له ثار باحوا بالسر تباح دماؤهــــــم ** وكذا دماء البائحين تباح وحقيقة قول هؤلاء يشبه قول قائل: إن ما قاله النصارى في المسيح حق، وهو موجود لغيره من الأنبياء والأولياء، لكن ما يمكن التصريح به؛ لأن صاحب الشرع لم يأذن في ذلك، وكلام صاحب منازل السائرين وأمثاله يشير إلى هذا، وتوحيده الذي قال فيه : ما وحد الواحد من واحد ** إذ كل من وحده جاحــد توحيد من يخبر عن نعته ** عارية أبطلهـا الواحــــــد توحيده إياه توحيــــــده ** ونعت مــن ينعته لا حــد فإن حقيقة قول هؤلاء: أن الموحد هو الموحد، وأن الناطق بالتوحيد على لسان العبد هو الحق، وأنه لا يوحده إلا نفسه فلا يكون الموحد إلا الموحد، ويفرقون بين قول فرعون: /وهذا مما وقع فيه كثير من المتصوفة المتأخرين، ولهذا رد الجنيد ـ رحمه الله ـ على هؤلاء لما سئل عن التوحيد فقال: هو الفرق بين القديم والمحدث، فبين الجنيد ـ سيد الطائفة ـ أن التوحيد لا يتم إلا بأن يفرق بين الرب القديم، والعبد المحدث، لا كما يقوله هؤلاء الذين يجعلون هذا هو هذا، وهؤلاء أهل الاتحاد والحلول الخاص والمقيد، وأما القائلون بالحلول والاتحاد العام المطلق، فأولئك هم الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان، أو أنه وجود المخلوقات، وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضوع. والمقصود هنا أن الحلاج لم يكن مقيدًا بصنف من هذه الأصناف، بل كان قد قال من الأقوال التي توجب الكفر والقتل باتفاق طوائف المسلمين ما قد ذكر في غير هذا الموضع، وكذلك أنكره أكثر المشايخ، وذموه: كالجنيد، وعمر بن عثمان المكي، وأبي يعقوب النهرجوري. ومن التبس عليه حاله منهم فلم يعرف حقيقة ما قاله ـ إلا من كان يقول بالحلول والاتحاد مطلقًا أو معينًا ـ فإنه يظن أن هذا كان قول الحلاج وينصر ذلك؛ ولهذا كانت فرقة ابن سبعين فيها من رجال الظلم جماعة منهم الحلاج، وعند جماهير المشايخ الصوفية، وأهل العلم أن الحلاج لم يكن من المشايخ الصالحين،بل كان زنديقًا وزهده لأسباب متعددة يطول وصفها، ولم يكن من أهل الفناء في توحيد الربوبية، بل كان قد/ تعلم السحر وكان له شياطين تخدمه إلى أمور أخرى مبسوطة في غير هذا الموضع. وبكل حال آدم لما أكل هو وحواء من الشجرة، لم يكن زائل العقل ولا فانيا في شهود القدر العام، ولا احتج على موسى بذلك، بل قال: لم تلومني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن أخلق؟ فاحتج بالقدر السابق لا بعدم تمييزه بين المأمور والمحظور.
إذا عرف هذا، فنقول: الصواب في قصة آدم وموسى، أن موسى لم يلم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنب عاص؛ ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ لم يقل: لماذا خالفت الأمر؟ ولماذا عصيت؟ والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم بالتسليم للقدر، وشهود الربوبية، كما قال تعالى: فأمره بالحرص على ما ينفعه وهو طاعة الله ورسوله، فليس للعباد أنفع من طاعة الله ورسوله، وأمره إذا أصابته مصيبة مقدرة ألا ينظر إلى القدر ولا يتحسر بتقدير لا يفيد، ويقول: قدر الله وما شاء فعل، ولا يقول: لو أني فعلت لكان كذا، فيقدر ما لم يقع، يتمني أن لو كان وقع؛ فإن ذلك إنما يورث حسرة وحزنًا لا يفيد، والتسليم للقدر هو الذي ينفعه، كما قال بعضهم: الأمر أمران: أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه. ومازال أئمة الهدى من الشيوخ وغيرهم يوصون الإنسان بأن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، وإن كانت تلك المصيبة بسبب فعل آدمي. فلو أن رجلاً أنفق ماله في المعاصي حتى مات، ولم يخلف لولده مالا، أو ظلم الناس بظلم صاروا لأجله يبغضون أولاده، ويحرمونهم ما يعطونه لأمثالهم، لكان هذا مصيبة في حق الأولاد حصلت بسبب فعل الأب، فإذا قال أحدهم لأبيه: أنت فعلت بنا هذا، قيل للابن: هذا كان مقدورًا /عليكم، وأنتم مأمورون بالصبر على ما يصيبكم، والأب عاص لله فيما فعله من الظلم والتبذير، ملوم علي ذلك، لا يرتفع عنه ذم الله وعقابه بالقدر السابق، فإن كان الأب قد تاب توبة نصوحًا وتاب الله عليه وغفر له، لم يجز ذمه ولا لومه بحال، لا من جهة حق الله، فإن الله قد غفر له، ولا من جهة المصيبة التي حصلت لغيره بفعله؛ إذ لم يكن هو ظالمًا لأولئك، فإن تلك كانت مقدرة عليهم. وهذا مثال قصة آدم: فإن آدم لم يظلم أولاده، بل إنما ولدوا بعد هبوطه من الجنة، وإنما هبط آدم وحواء، ولم يكن معهما ولد حتى يقال: إن ذنبهما تعدي إلى ولدهما، ثم بعد هبوطهما إلى الأرض جاءت الأولاد، فلم يكن آدم قد ظلم أولاده ظلمًا يستحقون به ملامه، وكونهم صاروا في الدنيا دون الجنة أمر كان مقدرًا عليهم لا يستحقون به لوم آدم، وذنب آدم كان قد تاب منه، قال الله تعالى : وموسى كان أعلم من أن يلومه لحق الله على ذنب قد علم أنه تاب منه، فموسى أيضًا فد تاب من ذنب عمله، وقد قال موسى: وقد روى في الإسرائيليات أنه احتج به، وهذا مما لا يصدق به لو كان محتملا،فكيف إذا خالف أصول الإسلام، بل أصول الشرع والعقل، نعم إن كان ذكر القدر مع التوبة فهذا ممكن، لكن ليس فيما أخبر الله به عن آدم شيء من هذا، ولا يجوز الاحتجاج في الدين بالإسرائيليات إلا ما ثبت نقله بكتاب الله أو سنة رسوله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم). وأيضًا فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له فلماذا أخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض؟! فإن قيل: وهو قد تاب، فلماذا بعد التوبة أهبط إلى الأرض؟ قيل: التوبة قد يكون من تمامها عمل صالح يعمله فيبتلى بعد التوبة لينظر دوام طاعته، قال الله تعالى : ولما تاب كعب بن مالك وصاحباه، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بهجرهم حتى نسائهم ثمانين ليلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية لما رجمها: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله). وقد أخبر الله عن توبته على بني إسرائيل حيث قال لهم موسى : وإذا كان الله ـ تعالى ـ قد يبتلى العبد من الحسنات والسيئات، والسراء والضراء بما يحصل معه شكره وصبره، أم كفره وجزعه وطاعته أم معصيته فالتائب أحق بالابتلاء، فآدم أهبط إلى الأرض ابتلاء له، ووفقه الله في هبوطه لطاعته فكان حاله بعد الهبوط،خيرًا من حاله قبل الهبوط، وهذا بخلاف ما لو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له، فإنه لا يكون عليه ملام البتة ولا هناك توبة تقتضي أن يبتلى صاحبها ببلاء . وأيضًا فإن الله قد أخبر في كتابه بعقوبات الكفار: مثل قوم/ نوح وهود وصالح وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون وقومه ما يعرف بكل واحدة من هذه الوقائع ألا حجة لأحد في القدر، وأيضًا فقد شرع الله من عقوبة المحاربين من الكفار وأهل القبلة وقتل المرتد وعقوبة الزاني والسارق والشارب ما يبين ذلك.
فقد تبين أن آدم حج موسى لما قصد موسى أن يلوم من كان سببًا في مصيبتهم، وبهذا جاء الكتاب والسنة، قال الله تعالى: وسواء في ذلك المصائب السمائية، والمصائب التي تحصل بأفعال الآدميين، قال تعالى: وقد قيل في معناه: اصبر لما يحكم به عليك، وقيل :اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آت، والأول أصح. وحكم الله نوعان: خلق، وأمر. فالأول: ما يقدره من المصائب. والثاني: ما يأمر به وينهى عنه، والعبد مأمور بالصبر على هذا وعلى هذا، فعليه أن يصبر لما أمر به، ولما نهى عنه، فيفعل المأمور، ويترك المحظور، وعليه أن يصبر لما قدره الله عليه. وبعض المفسرين يقول: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وهذا يتوجه إن كان في الآية النهى عن القتال، فيكون هذا النهي منسوخًا، ليس جميع أنواع الصبر منسوخة، كيف والآية لم تتعرض لذلك هنا لا بنفي ولا إثبات؟! بل الصبر واجب لحكم الله ما زال واجبًا، وإذا أمر بالجهاد فعليه أيضًا أن يصبر لحكم الله، فإنه يبتلى من قتالهم بما هو أعظم من، كلامهم، كما ابتلى به يوم أحد والخندق، وعليه حينئذ أن يصبر ويفعل ما أمر به من الجهاد. /والمقصود هنا قوله: وقالت الرسل لقومهم: وقال تعالى: /و أصل المهاجر،من هجر ما نهى الله عنه كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من هجر السوء فظلمه الناس على ترك الكفر والفسوق والعصيان حتى أخرجوه ـ لا هجر بعض أمور في الدنيا ـ فصبر على ظلمهم،فإن الله يبوئه في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر، كيوسف الصديق فإنه هجر الفاحشة حتي ألجأه ذلك هجر منزله. واللبث في السجن بعد ما ظلم، فمكنه الله حتى تبوأ من الأرض حيث يشاء. وقال الذين لقوا الكفار: فالصبر والشكر على ما يقدره الرب على عبده من السراء والضراء، من النعم والمصائب، من الحسنات التي يبلوه بها والسيئات، فعليه أن يتلقى المصائب بالصبر، والنعم بالشكر، ومن النعم ما ييسره له من أفعال الخير، ومنها ما هي خارجة عن أفعاله، فيشهد القدر عند فعله للطاعات، وعند إنعام الله عليه فيشكره /ويشهده عند المصائب فيصبر، وأما عند ذنوبه فيكون مستغفرا تائبًا، كما قال: وأما من عكس هذا فشهد القدر عند ذنوبه، وشهد فعله عند الحسنات فهو من أعظم المجرمين، ومن شهد فعله فيهما فهو قدري، ومن شهد القدر فيهما ولم يعترف بالذنب ويستغفره فهو من جنس المشركين. وأما المؤمن فيقول: أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، كما في الحديث الصحيح الإلهي: (يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). وكان نبينا صلى الله عليه وسلم متبعًا ما أمر به من الصبر على أذى الخلق، ففي الصحيحين عن عائشة قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا له، ولا دابة، ولا شيء قط؛ إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله، لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله) وقال أنس: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لا فعلته؟ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول: (دعوه، دعوه، فلو قضى شيء لكان)، وفي السنن عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه ذكر للنبي/صلى الله عليه وسلم قول بعض من آذاه فقال: (دعنا منك، فقد أوذي موسي بأكثر من هذا فصبر)، فكان يصبر على أذى الناس له من الكفار والمنافقين وأذى بعض المؤمنين، كما قال تعالى: والمؤمن مأمور بأن يصبر على المقدور، ولذلك قال: فأخبر أن صبره بالله، فالله هو الذي يعينه عليه، فإن الصبر على المكاره بترك الانتقام من الظالم ثقيل على الأنفس، لكن صبره بالله كما أمره أن يكون لله في قوله: /وكما أن الإنسان مأمور بشهود القدر وتوحيد الربوبية عند المصائب، فهو مأمور بذلك عند ما ينعم الله عليه من فعل الطاعات، فيشهد قبل فعلها حاجته وفقره إلى إعانة الله له، وتحقق قوله: ويدعو بالأدعية التي فيها طلب إعانة الله له علي فعل الطاعات، كقوله: (أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). وقوله: (يامقلب القلوب ثبت قلبي علي دينك، ويا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك)، وقوله: ورأس هذه الأدعية وأفضلها قوله: وكذلك الدعاء الذي فيه: (اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ماتهون به علينا مصائب الدنيا)، وكذلك الدعاء باليقين والعافية كما في حديث أبي بكر، وكذلك قوله: (اللهم أصلح لي قلبي ونيتي)، ومثل قول الخليل وإسماعيل: وهذه أدعية كثيرة تتضمن افتقار العبد إلى الله في أن يعطيه الإيمان والعمل الصالح، فهذا افتقار واستعانة بالله قبل حصول المطلوب، فإذا حصل بدعاء أو بغير دعاء، شهد إنعام الله فيه، وكان في مقام الشكر والعبودية لله، وإن هذا حصل بفضله وإحسانه لا بحول العبد وقوته. فشهود القدر في الطاعات من أنفع الأمور للعبد، وغيبته عن ذلك من أضر الأمور به، فإنه يكون قدريا منكرًا لنعمة الله عليه بالإيمان والعمل الصالح، وإن لم يكن قدري الاعتقاد كان قدري الحال، وذلك يورث العجب والكبر، ودعوى القوة والمنة بعمله، واعتقاد استحقاق الجزاء على الله به، فيكون من يشهد العبودية مع الذنوب والاعتراف بهاـ لا مع الاحتجاج بالقدر ـ عليها خيرًا من هذا الذي يشهد الطاعة منه، لا من إحسان الله إليه، ويكون أولئك المذنبون بما معهم من الإيمان، أفضل من طاعة بدون هذا الإيمان. /وأما من أذنب وشهد ألا ذنب له أصلا لكون الله هو الفاعل، وعند الطاعة يشهد أنه الفاعل، فهذا شر الخلق، وأما الذي يشهد نفسه فاعلا للأمرين، والذي يشهد ربه فاعلاً للأمرين، ولا يرى له ذنبًا؛ فهذا أسوأ عاقبة من القدري، والقدري أسوأ بداية منه، كما هو مبسوط في موضع آخر. والناس في هذا المقام أربعة أقسام: من يغضب لربه لا لنفسه، وعكسه، ومن يغضب لهما، ومن لا يغضب لهما، كما أنهم في شهود القدر أربعة أقسام: من يشهد الحسنة من فعل الله والسيئة من فعل نفسه، وعكسه، ومن يشهد الثنتين من فعل ربه، ومن يشهد الثنتين من فعل نفسه، فهذه الأقسام الأربعة في شهود الربوبية، نظير تلك الأقسام الأربعة في شهود الإلهية، فهذا تقسيم العباد فيما لله ولهم، وذاك تقسيمهم فيما هو بالله وبهم، والقسم المحض أن يعمل لله بالله، فلا يعمل لنفسه ولا بنفسه. والمقصود هنا، تقسيمهم فيما لله، فأعلاهم حال النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه: أن يصبروا على أذى الناس لهم باليد واللسان، ويجاهدون في سبيل الله، فيعاقبون ويغضبون وينتقمون لله لا لنفوسهم يعاقبون؛ لأن الله يأمر بعقوبة ذلك الشخص، ويحب الانتقام منه، كما في جهاد الكفار وإقامة الحدود، وأدناهم عكس هؤلاء يغضبون وينتقمون ويعاقبون لنفوسهم، لا لربهم، فإذا أوذى أحدهم أو خولف هواه غضب وانتقم وعاقب، ولو انتهكت محارم الله أو ضيعت حقوقه؛ لم يهمه ذلك، وهذا حال الكفار والمنافقين. /وبين هذين وهذين قسمان: قسم يغضبون لربهم ولنفوسهم، وقسم يميلون إلى العفو في حق الله وحقوقهم، فموسى في غضبه علي قومه لما عبدوا العجل كان غضبه لله، وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم في حقوق الله أبا بكر وعمر بإبراهيم وعيسى ونوح وموسى، فقال: (إن الله يلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجر، ومثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم وعيسى، ومثلك يا عمر كمثل نوح وموسى). وأما عفو الإنسان عن حقوقه، فهذا أفضل، وإن كان الاقتصاص جائزًا، وكذلك غضبه لنفسه، تركه أفضل، وإن كان الاقتصاص جائزًا، وأما ما كان من باب المصائب الحاصلة بقدر الله ولم يبق فيها مذنب يعاقب، فليس فيها إلا الصبر والتسليم للقدر. وقصة آدم وموسى كانت من هذا الباب، فإن موسى لامه لأجل ما أصابه والذرية، وآدم كان قد تاب من الذنب وغفر له، والمصيبة كانت مقدرة، فحج آدم موسى. وهكذا قد يصيب الناس مصائب بفعل أقوام مذنبين تابوا، مثل كافر يقتل مسلمًا ثم يسلم ويتوب الله عليه، أو يكون متأولاً لبدعة ثم يتوب من المبدعة، أو يكون مجتهدًا، أو مقلدًا مخطئًا، فهؤلاء إذا أصاب العبد أذى بفعلهم، فهو من جنس المصائب السماوية التي لا يطلب فيها قصاص من آدمي. /ومن هذا الباب: القتال في الفتنة. قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، وكذلك، قتال البغاة المتأولين، حيث أمر الله بقتالهم إذا قاتلهم أهل العدل فأصابوا من أهل العدل نفوسًا وأموالاً لم تكن مضمونة عند جماهير العلماء: كأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه، وهذا ظاهر مذهب أحمد. وكذلك المرتدون إذا صار لهم شوكة فقتلوا المسلمين، وأصابوا من دمائهم وأموالهم، كما اتفق الصحابة في قتال أهل الردة: أنهم لا يضمنون بعد إسلامهم ما أتلفوه من النفوس والأموال، فإنهم كانوا متأولين، وإن كان تأويلهم باطلاً، كما أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة عنه مضت بأن الكفار إذا قتلوا بعض المسلمين وأتلفوا أموالهم ثم أسلموا، لم يضمنوا ما أصابوه من النفوس والأموال، وأصحاب تلك النفوس والأموال كانوا يجاهدون، قد اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فعوض ما أخذ منهم على الله لا على أولئك الظالمين الذين قاتلهم المؤمنون. وإذا كان هذا في الدماء والأموال فهو في الأعراض أولى، فمن كان مجاهدًا في سبيل الله باللسان: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الدين وتبليغ مافي الكتاب والسنة من الأمر والنهي والخير، وبيان الأقوال المخالفة لذلك، والرد على من خالف الكتاب والسنة، أو باليد كقتال الكفار، فإذا/ أوذي على جهاده بيد غيره أو لسانه فأجره في ذلك على الله لا يطلب من هذا الظالم عوض مظلمته، بل هذا الظالم إن تاب وقبل الحق الذي جوهد عليه فالتوبة تجب ما قبلها والكفار إذا اعتدوا على المسلمين مثل أن يمثلوا بهم، فللمسلمين أن يمثلوا بهم كما مثلوا، والصبر أفضل، وإذا مثلوا كان ذلك من تمام الجهاد، والدعاء على جنس الظالمين الكفار مشروع مأمور به، وشرع القنوت والدعاء للمؤمنين، والدعاء على الكافرين. وأما الدعاء على معينين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلعن فلانًا وفلانًا، فهذا قد روى أنه منسوخ بقوله: ودعاء نوح على أهل الأرض بالهلاك، كان بعد أن أعلمه الله أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن، ومع هذا فقد ثبت في حديث الشفاعة في الصحيح أنه يقول: (إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها)، فإنه وإن لم ينه عنها فلم يؤمر بها، فكان الأولى أن لا يدعو إلا بدعاء مأمور به واجب أو مستحب، فإن الدعاء من العبادات، فلا يعبد الله إلا بمأمور به واجب أو مستحب، وهذا لو كان مأمورًا به لكان شرعًا لنوح، ثم ننظر في شرعنا هل نسخه أم لا؟ وكذلك دعاء موسى بقوله:
|